تضحيات شعبنا في جباليا ونبوءات محمد الشاعر .. رامي الشاعر
في مقدمة الطبعة الثالثة من كتابه “الحرب الفدائية في فلسطين على ضوء تجارب الشعوب في قتال العصابات”، لوالدي المناضل الدكتور محمد الشاعر، دكتور التاريخ والعلوم العسكرية ومن مؤسسي جيش التحرير الفلسطيني وكذلك من أوائل من أسس أول معسكر للتدريب على العمل الفدائي في لبنان، واختير ليكون أول سفير لفلسطين في الاتحاد السوفيتي، والصادر في بيروت عام 1969، وهي الطبعة التي أضيفت إليها حوادث عدوان الخامس من يونيو حزيران 1967، والعمل الفدائي بعد النكبة وآفاق تطوره. كتب والدي، رحمة الله عليه، العقيد (في حينها) محمد الشاعر: “عندما انطلق شعار الحرب الفدائية أو حرب العصابات وشعار حرب التحرير الشعبية وغير ذلك من الشعارات التي تحمل في مضمونها الترديد الواعي والنية الصادقة للشعوب العربية التي عقدت العزم على استرداد الأرض المغتصبة في فلسطين وإعادتها إلى الوطن العربي الكبير، أخذ المواطن العربي بصورة عامة والعربي الفلسطيني بصورة خاصة يفكّر جدياً بالأسلوب والطريقة والأداة، ويتصور ما سيجري في حرب التحرير الفلسطينية ويقارنه بما جرى ويجري في حروب التحرير للشعوب الأخرى التي مرت وتمر بظروف مشابهة من بعيد أو قريب للظروف الموضوعية لحرب التحرير الفلسطينية المقبلة.
إن هذه التصورات للمعركة الكبرى الحتمية مع العدو والارتقاء بها لمراحل أعلى، بدءا من الدراسة والتخطيط ثم الإعداد أو التنظيم، كل ذلك يتطلب منا الإحاطة والدراسة، ثم التركيز على أهم العناصر التي ستلعب دورا هاما في معركة التحرير”.
ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أحوجنا اليوم إلى تدبر وتأمل والتفكير في كلمات الشاعر، التي وضع فيها عصارة تجربته النضالية من أجل قضية شعبنا العادلة، التي يقف إلى جانبنا فيها اليوم كل شرفاء وأحرار العالم، ممن لم تلوثهم وسائل الإعلام الصهيوني والغربي، ومن يحافظون على الخيط الرفيع الذي يربط قضية شعبنا الأبيّ العظيم الباسل الشجاع بكل حركات النضال من أجل الحرية والاستقلال واستعادة الكرامة والشرف والأرض.
لقد ربط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماعه يوم أول أمس الاثنين بمجلس الأمن الروسي، والذي شاركت فيه كافة قيادات الدولة الروسية، لمناقشة ما نشب من أوضاع في مطار محج قلعة بجمهورية داغستان الروسية، بين القضية الفلسطينية العادلة، وبين قضية روسيا العادلة أيضاً، والتي تخوض البلاد من أجلها عمليتها العسكرية الخاصة بأوكرانيا. فقال نصاً: “إن روسيا لا تشارك فقط في تشكيل عالم جديد، وهي ليست فقط أحد قادة هذه العملية، بل وأزيدكم من الشعر بيتا: إننا نقاتل من أجل مستقبلنا في ساحة المعركة. نقاتل باستمرار ونفقد رفاقنا. إن وراء مأساة الفلسطينيين، ووراء الصراع في أوكرانيا، وفي أفغانستان وسوريا، تقف النخب الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية. هم من يزرعون قواعد عسكرية في كل مكان، ويريدون تقسيمنا من الداخل”.
وقال الرئيس: “علينا أن نتذكر من يقف وراء مأساة الشرق الأوسط. اليوم، في رأيي، أصبح ذلك واضحا وجليا للجميع، فالعملاء أصبحوا يتصرفون بعلانية ووقاحة، والنخب الحاكمة الحالية في الولايات المتحدة وأتباعها هم المستفيدون الرئيسيون من عدم الاستقرار العالمي، يستخرجون منه ريع دمهم”.
وتابع: “إننا في مواجهة هذا العدو (الغرب) تحديدا، في إطار العملية العسكرية الروسية الخاصة، نعزز مواقف كل من يناضل من أجل حريته وسيادته، ومساعدة الفلسطينيين تكون بمكافحة من يقف وراء هذه المأساة”، وأكد على أن روسيا في عمليتها العسكرية الخاصة لا تقاتل من أجل نفسها فحسب، بل من أجل من يسعون جاهدين من أجل الحرية الحقيقية. وقال: “إن من يدافعون حقا عن الحقيقة والعدالة، ويحاربون الشر والقمع، والعنصرية والنازية الجديدة، التي يشجعها الغرب، يقفون الآن على الجبهة بالقرب من دونيتسك وأفديفكا على نهر الدنيبر. إنهم جنودنا وضباطنا، واختيار الرجال الحقيقيين والمحاربين الحقيقيين هو حمل السلاح والوقوف في صف الأخوة، وحينها يتقرر مصير روسيا والعالم أجمع”.
إن مجزرة جباليا، التي راح ضحيتها وفقا للتقديرات الأولية الصادرة عن وزارة الصحة في غزة أكثر من 400 شهيد وجريح، ستحفر اسم إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والمجتمع الدولي العاجز الصامت أمام غطرسة آلة الإرهاب الإسرائيلي بحروف من دم وعار، بينما تخرج علينا الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض بتصريحات من عينة أن القوات الإسرائيلية “تحاول الحد من مقتل المدنيين في قطاع غزة”، وأن هذا “ليس الوقت المناسب لوقف إطلاق النار”، وكأن لسان الحال يقول: “لم يشبع السيد نتنياهو وحكومته الإرهابية المتطرفة بعد، من مشاهد القتل والدمار وقتل الأطفال بدم بارد، وتجميع أشلائهم ودمائهم على مشهد ومرأى من العالم المتحضر!”.
لقد خلع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية برقع الحياء، ويمضي بكل علانية ووقاحة في التصعيد على كافة الجبهات، في أوكرانيا، وفي فلسطين، ويهدد العالم بحرب عالمية ثالثة، في جنون مطبق، بعد أن تأكدت الولايات المتحدة، مع كل ما توفره لأوكرانيا من سلاح وعتاد وأموال، أنها امبراطورية بصدد الأفول، وتسعى شأنها شأن كل الإمبراطوريات في التاريخ إلى تدمير العالم بينما تذهب إلى مزبلة التاريخ.
إسرائيل، ربيبة الولايات المتحدة، ستذهب معها مكللة بكل عار، وسيذهب معها مجرم الحرب نتنياهو، بعد أن يتسبب لإسرائيل، شأنه في ذلك شأن زميله الأوكراني زيلينسكي، في دمار الدولة، وضياع الأمة.
فما نراه في أركان كثيرة حول العالم من حملات ضد إسرائيل يشي بميلاد حركة معادية للسامية، لا يوافق عليها أي ذي عقل، إلا أن من تسبب بها هو نتنياهو نفسه وغيره من أبناء جلدته كأنتوني بلينكن الأمريكي اليهودي الصهيوني، والحكومات اليمينية المتعاقبة في إسرائيل، لعجزهم عن إدراك الخطر الحقيقي الذي يهدد الأمة اليهودية، وهو ليس حزب الله أو حماس، وإنما الدولة الإسرائيلية نفسها، ذلك الاحتلال، والاستيطان، والتوسع، وقضم الأراضي، وغطرسة القوة، وأوهام الطغيان.
إن ما نشهده هو نتيجة منطقية للغاية لتنصل الدولة الإسرائيلية من كل المعاهدات والاتفاقيات ومقررات الشرعية الدولية، ومرة أخرى أكرر وأؤكد على أن ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر الجاري لم يكن سوى رد فعل منطقي على عقود من الحصار والقمع والتعذيب والقتل لشعبنا الأعزل في غزة والضفة.
إن المستوطنين الذين جاءوا ليستوطنوا الأراضي المحتلة في إسرائيل، وكثير منهم من الانتهازيين والمنتفعين وبعض اليهود ممن حصلوا على جوازات سفر يهودية خلال التسعينيات من القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة، لم يأتوا ليموتوا، وإنما جاءوا ليعيشوا حياة رغدة في “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، بل إن بعضهم فرّ هرباً مما أسماه “العدوان الغاشم على الجارة أوكرانيا”، ليستوطنوا أراضٍ محتلة. فهل يمكن لهؤلاء أن يصمدوا في وجه أصحاب الأرض، الذين أنبتتهم أرض فلسطين المقدسة، وعاشوا لقرون على هذه الأرض الخصبة؟
بل قل هل تستطيع إسرائيل أن تنجح فيما عجزت عنه الولايات المتحدة في فيتنام والعراق وأفغانستان وليبيا، ألا يقرأون التاريخ؟
إن ما يحدث الآن في غزة هو ميلاد أمة، ميلاد جيل، ومن قتلوا ويقتلون في جباليا والمستشفى المعمداني وغيرها من المجازر التي يرتكبها الاحتلال، لم يموتوا بل هم بذور مقاومة أعتى، وأمة أقوى، وشعب عزيز قوي لن يتنازل عن أرضه التي روتها دماء الشهداء، والفدائيين الذين تحدث عنهم محمد الشاعر في نبوءته منذ 54 عاماً، والذين بدأوا في “حرب التحرير الفلسطينية”.
إنه المواطن العربي الفلسطيني الذي يفكّر جدياً بالأسلوب والطريقة والأداة التي سيستخدمها في حرب التحرير الفلسطينية، ويقارنه بما جرى ويجري في حروب التحرير للشعوب الأخرى التي مرت وتمر بظروف مشابهة من بعيد أو قريب للظروف الموضوعية لحرب التحرير الفلسطينية المقبلة.
المجد للشهداء والحرية للشعب الفلسطيني العظيم.
اكتشاف المزيد من العاصمة والناس
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.