"غرائب القضايا".. ضحى من أجله ومات على يده
حالات غريبة حدثت وأثارت جدلاً تحول فيها القاتل إلى بريء، والجاني إلى ضحية، ألغاز كشفتها التحقيقات، وأزاحتها دفاعات المحامين في الساحات. ويعرض اليوم السابع، على مدار 30 حلقة خلال شهر رمضان المبارك، أبرز هذه الحالات وحقائقها المثيرة.
هذه الحلقة يرويها المستشار بهاء الدين أبو شقة في كتابه “أغرب الحالات”…
ليلة لا تنسى عندما جاءت فتاة صغيرة إلى مكتبي. غطى الحزن والاكتئاب وجهها وأعتصرت عينيها اللتين احمرتا من كثرة البكاء. سيطر الاكتئاب واليأس على ملامح وجهها، ومع كل ما سبق، فقدت مسحة الجمال التي بدت للوهلة الأولى عندما وصلت إلى غرفة المكتب.
طلبت منها أن تكون هادئة وهادئة حتى أتمكن من فهم مشكلتها. حاولت جاهدة أن تتمالك نفسها، لكن العاطفة كانت واضحة في عينيها، اللتين احمرتا من كثرة البكاء.
سألتها عن المشكلة التي أتت من أجلها. بكت أكثر فأكثر. انفجرت الدموع من عينيها وسقطت مثل المطر. قالت وهي تبكي: “إنه أمر لا يصدق. لا أستطيع أن أصدق ذلك. وكأنني أعيش في كابوس مرعب. والله هذا ظلم. هذا حرام.” “وسقطت فاقدة الوعي.”
وبعد تقديم الإسعافات الأولية وبعد تعافيها أصرت على التحدث: “خطيبي محكوم عليه بالإعدام. سيتم شنقه وأنا متأكد من أنه بريء. تخيل أن يتم إعدام شخص بريء دون أي خطأ منه. ولم يرتكب جريمة».
سألتها، وأحسست بإصرارها على براءته من البريق في عينيها والنظرة في صوتها، كيف تأكدت من براءته، خاصة أن المحكمة حكمت بعد الاطلاع على أدلة وجوانب الدفاع، و وانتهت بإجماع الرأي على إدانته بالإعدام، خاصة وأن حكم الإعدام له طبيعة خاصة وضمانات كبيرة تفوق الضمانات في قضايا الجنايات العادية. .
فأجابت الفتاة: “شعوري يؤكد لي أنه بريء.. ونظرات عينيه إلي أقنعتني بذلك، وكلامه بعد النطق بالحكم.. لن أنساه ما حييت”. .. منظر يستحيل أن يفارق عينيه وهو يقول لي: ‘لا يهمني العالم كله… كل ما يهمني هو أنت والله.’ إليك بحبنا الطاهر أنا بريء.. لم أخبرك عن عمي.. كل ما يهمني هو أنت.. صورتي أمام عينيك يجب أن تظل جميلة كما هي.. العالم كله لا اهتم بي.. أخبرني أنك تصدقني، فهذه كلماتك هي التي ستهون عليها المشنقة وبقاع الدنيا. “أنا راضية ما دمت راضية ومقتنعة ببراءتي”. ولم تشعر بنفسها والدموع تملأ خديها وتبلل ملابسها. وكان اقتناعها بصدق كلامه بلا حدود.
كان علي أن أقرأ أوراق القضية بعناية.. التهمة كما ورد في وصفها هي القتل العمد مع سبق الإصرار. والقتيل هو عم المتهم الذي قام بتربيته.. في ظل حكم والده.. مما أثار الاشمئزاز من فعلته ودفعت أحقيته إلى التنصل منها والتنصل منها، بل والتحامل عليها. وليقفوا ضده وينتظروا اليوم الذي يطهرون فيه ثوب العائلة الأبيض من قذارته.. يرونه معلقا على المشنقة ليروي عطشهم ومكافأة سخية لدماء ذلك الرجل العظيم الذي لم يفشل يوما في صنعه. له سعيد.
منذ البداية كانت القصة تدور حول شقيقين لا ثالث لهما.. أشرف وأخوه سمير الذي يكبره بحوالي ست سنوات. وعندما أصيب والدهم بمرض خطير منعه من العمل، أصبح غير قادر على الحركة. فقد الأمل في الشفاء، وأدرك الرجل أن أيامه -في الحياة- وهو يحتضر لم ينس ولديه الصغيرين، فأوصى بهما شقيقه «محمود» وهو في الصراع الأخير . ونصحه بالاهتمام بابنيه والتعامل معهما كأنهما ابنه، خاصة أن والدتهما كانت تعاني أيضاً من «كوكتيل» أمراض مستعصية.
مات الرجل وترك أسرة لا تملك شيئاً من خراب الدنيا.. زوجة مريضة بحاجة ماسة إلى علاج وأدوية مستمرة.. وولدين أكبرهما عمره عشر سنوات.. وأخيه “محمود” كان حسن الأصل وعلى مستوى أفضل توقعاته… حقق وصيته بل وأكثر، وكان يعتبر هو نفسه أبًا حقيقيًا لهم. كرس حياته لهم وبدأ بتعليمهم. لقد ختم مشاعره بـ “البوابة والمفتاح”. تزوج من أرملة أخيه رغم علمه بمرضها ورغم المرارة التي كانت تعانيها من هذا الزواج، وشعورها بالإهمال في حقه وأنها لا تستطيع إسعاده كزوج مثل أي شخص آخر. زوجات لكنهن يخفين أحزانهن في داخلهن، كان الرجل يشعر بمشاعرها وأحاسيسها، ويواسيها، ويهون عليها.
وكان يسهر بجانبها ليالي طويلة ليزودها بالدواء. وكان صالحاً، تقياً، تقياً. كان يتقي الله في كل أعماله، ويتقيه في كل أعماله، لدرجة أنه طلب من ابني أخيه أن يناديانه “بابا محمود”. وواصل نضاله معهم ووقف إلى جانبهم ولم يدخر لهم شيئا. شئ ما.
ومرت الأيام، وكبر الشقيقان وتخرجا من الجامعة، وتوفيت والدتهما وهي تدعو له، وتقدر مروءته، وتقر برؤيته، وذلك لولا وقوفه إلى جانبهم، هي وولديها، عجلة لطغت عليهم الحياة… وحكم عليهم بالضياع. وبعد وفاة الأم حزن الرجل عليها بشدة، وقرر أن يحبس نفسه داخل “بوابة” حديدية، وأدرك أنه جرب حظه في الحياة، وأن السعادة نسبية ويختلف مفهومها من شخص لآخر. آخر، وأن سعادته الحقيقية، التي بدأ يراها تملأ حياته، هما ابنا أخيه “أشرف” و”سمير”، فقد كان يعتقد أنه بالفعل أب لهما، وكانت كلمة “بابا” مثل الموسيقى التي تهتز على أوتار قلبه.
لكن السعادة لا تدوم. وفي الوقت الذي كان فيه قارب الأيام يبحر في نهر الطمأنينة والحب، ظهرت “صخرة” قوية سدت طريق القارب وقطعت نشوة الفرح عنه.. كانت تلك المرأة التي ظهرت في حياة الأسرة فجأة و انقلبت حالتهم رأسا على عقب التقى بها بالصدفة والشعر. غطى الأبيض عقله. كانت كالثلج الذي لا يذوب وآثار الزمن التي لا ترحل. تركت آثارًا على وجهه وملأته بالتجاعيد. وكانت هذه حالة الرجل عندما التقى بها. كان قلبه خاليًا من الحنان، خاليًا من الحب. عطشان، في انتظار الكأس الأولى. ترويها: أما هي فكانت أرملة مات زوجها في حادث ولم يكن لها أولاد.
كان لديها شخصية نحيلة ومظهر جميل. بياض بشرتها الممزوج باحمرار وجهها زادها سحرا و بهاء. وكان رأسها مغطى بالشعر الأصفر. كان مثل خيوط الذهب التي تدفقت على خديها. أما الثوب الأسود – رغم قتامة لونه – فقد زادها جمالا وبهاء. نظر إليها ولم يتمكن من الرؤية، يقاوم النظرة الأولى.. ظل يختلس النظرات دون وعي، إذ اخترقت نظرتها قلبه العذراء، المتعطش لمن يروي عطشه.
وسيطر عليه الخيال وسبح معه في فضاء واسع، وتداعت على رأسه الأسئلة والخيالات والأفكار. قارن نفسه بها، بين الشباب والشيخوخة، وتساءل والأفكار تسحق رأسه: هل يمكن أن يجتمعوا في سلة واحدة؟
وبينما كان الرجل تائهًا وتائهًا في أفكاره ونور الصباح، بدأ يغيب عن العالم دون أن يشعر، عندما دخل عليه ابن أخيه «سمير» وهو يناديه أكثر من مرة: «ما بك؟» ، بابا محمود؟ ما بال سرحان؟”
أحس الولد أن عمه الذي احمرت عيناه وتدلت جفونه من السهر، شعر أنه ليس طبيعيا وأن هناك شيئا يزعجه، فزاد في تساؤله: “ما بك يا أبي؟” إلا أن إجابته لم تكن متوافقة مع وضعه، إذ أجاب: «لا شيء على الإطلاق». فقاطع حديثه. لا يوجد شيء.. وفي ذهنك شيء مهم تفكر فيه.. علمتنا الصدق.. ماذا تقول فيه يا أبي؟ أيمكنني مساعدتك؟
تحدث الرجل مع تعبير خجول على وجهه. لو قلت لك أنني أريد الزواج هل ستنزعج أنت وأخوك؟ ابتسم وهو يهدأ وقال بثقة: “كل ما يهمنا هو رؤيتك سعيدة وسعيدة”. ورغم أن “سمير” شجع عمه على الزواج، بل وبارك زواجه، إلا أنه رحب بالأرملة التي حدثه عنها، بل وأيده بقوله إنها الزوجة التي ستسعده وتعوضه عما مضى.. لكن أما “أشرف” فكان العكس في ذلك.. كان يخاف من تلك المرأة.. كان يرى أن زواج عمه غير لائق، فهي من “هريسة” أخرى غرس “هريستها”… وهي امرأة “فقيرة” تعشق “الأناقة” والمظاهر.. بينما يعيش عمه حياته على النقيض من ذلك.. منسحباً على نفسه مكرساً لإرضاء زوجته المريضة.
واعتبر أشرف أن إصرار العم على الزواج يعد عصياناً للتقاليد العائلية، خاصة أنه يكبرها بسنوات عديدة، كما أن جمالها المذهل أثار تساؤلات ودهشة حول سبب زواجها منه، رغم عدم تساوي الميزانين. . جمالها وشبابها وأنوثتها الغزيرة مكنها من الزواج من الشاب الذي يناسبها. وألقت شبكتها على هذا التوجه على عمه، إذ وجدت فيه «صيداً» ثميناً، أو بمعنى آخر «زواج المصلحة»، بعد أن لعابت على ثروته وممتلكاته التي راكمها من خلال مصاعب الحياة. حياته.
تم زواجهما. وبارك الأخ الأكبر هذا الزواج وأعرب عن سعادته وترحيبه به. كل ما يجعله سعيدا يجعله سعيدا. يريد أن يرد له جزءاً بسيطاً من إحسان عمه له ولأخيه وأمه المرحومة. لكن الأخ الأصغر أصر على تمرده ورفضه لهذا الزواج، وأعلن ذلك صراحة وصراحة أنه يرفض. لهذا الزواج غير المتكافئ.
ورغم أن الأخ الأكبر كان متزوجًا ويعيش مع زوجته وابنه الصغير في شقة في عمارة عمه، إلا أن شقيقه الأصغر كان لا يزال يعيش مع عمه وزوجته. كرم العم الذي كان يعتبره بمثابة الابن له، رفض أن يتركه ليعيش وحيدا بعد الزواج، خاصة أنه تقدم لخطبة فتاة. كان على وشك الزواج بها، وأصبحت أيامه – مع عمه – معدودة لتجهيز شقة الزوجية ليعيش فيها. وهدأ الليل عندما قطعت سكينته صراخ زوجة عمي وهي تبكي بشكل هستيري. قُتل زوجي. لقد قُتلت بينما كان يصلي.
صرخاتها كانت فاقدةً للوعي: أشرف قتل عمه… رأيته يقتله بساطور على رأسه وهو يصلي. تم القبض على أشرف ولم يصدق ما حدث، فنفى ذلك.
وأكدت شهادة زوجة العم خلال تحقيقات النيابة أنها شاهدته يسقط على رأس عمه أثناء سجوده في الصلاة وبيده “الساطور”. وكانت المفاجأة أن شقيقه الأكبر شهد أيضاً ضده، وأكد صحة ما قررته زوجة عمه. وأضاف في التحقيقات أن شقيقه كان يعادي عمه منذ أن فكر في الزواج، بل وهدده أكثر من مرة، ووعده بأنه سيقاوم هذا الزواج ولن يسمح باستمراره.
وأضافت الزوجة: “لقد نجت من الموت بأعجوبة.. حيث اعتدى عليها بالساطور عندما فاجأته أثناء ارتكابه الفعلة الشنعاء”. لكن من حسن حظها أنها اندفعت أمامه وهي تصرخ، فهرب”.
وتم تقديم الأخ الأصغر للمحاكمة، وقضت المحكمة الابتدائية بإعدامه شنقاً.
وكانت هذه وقائع وأحداث القضية كما وردت في أوراقها.
للمزيد : تابعنا هنا ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر .
اكتشاف المزيد من العاصمة والناس
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.